فصل: تفسير الآيات رقم (102 - 103)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏93 - 94‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل

له شريكا أو ولدا، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏ قال عِكْرِمة وقتادة‏:‏ نزلت في مسيلمة الكذاب ‏[‏لعنه الله‏]‏ ‏{‏وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ‏[‏إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏]‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏، قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ‏}‏ أي‏:‏ في سكراته وغمراته وكُرُباته، ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بالضرب كما قال‏:‏ ‏{‏لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ‏[‏مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقال الضحاك، وأبو صالح‏:‏ ‏{‏بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بالعذاب‏.‏ وكما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم‏:‏ ‏{‏أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ‏}‏ وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم‏:‏ ‏{‏أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ‏[‏وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله‏.‏

وقد وردت أحاديث ‏[‏متواترة‏]‏ في كيفية احتضار المؤمن والكافر، وهي مقررة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقد ذكر ابن مَرْدُوَيه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال ‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏، أي‏:‏ كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، فهذا يوم البعث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا ‏{‏وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏ وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقول ابن آدم‏:‏ مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‏"‏‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عَزَّ وجل، ‏[‏له‏]‏ أين ما جمعت‏؟‏ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول‏:‏ فأين ما قدمت لنفسك‏؟‏ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في ‏[‏الدار‏]‏ الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عَزَّ وجل، على رءوس الخلائق‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 22‏]‏ وقيل لهم ‏{‏أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 92، 93‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ أي‏:‏ في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي‏:‏ لقد انقطع ما بينكم من الوُصُلات والأسباب والوسائل ‏{‏وَضَلَّ عَنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وذهب عنكم ‏{‏مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ من رجاء الأصنام، كما قال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166، 167‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏، وقال ‏{‏إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏، وقال ‏{‏وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏القصص‏:‏ 64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 22 -24‏]‏، والآيات في هذا كثيرة جدا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95 - 97‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي‏:‏ يشقه في الثرى فتنبت الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب، والثمار على اختلاف أشكالها وألوانها وطعومها من النوى؛ ولهذا فسر ‏[‏قوله‏]‏ ‏{‏فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى‏}‏ بقوله ‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ‏}‏ أي‏:‏ يخرج النبات الحي من الحب والنوى، الذي هو كالجماد الميت، كما قال‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏[‏وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ‏]‏ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33 -36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ معطوف على ‏{‏فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى‏}‏ ثم فسره ثم عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ وقد عبروا عن هذا ‏[‏وهذا‏]‏ بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل‏:‏ يخرج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، من قائل‏:‏ يخرج الولد الصالح من الكافر، والكافر من الصالح، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ فاعل هذه الأشياء هو الله وحده لا شريك له ‏{‏فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف تصرفون من الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون مع الله غيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا‏}‏ أي‏:‏ خالق الضياء والظلام، كما قال في أول السورة‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بدآدئه وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا‏}‏ أي‏:‏ ساجيا مظلما تسكن فيه الأشياء، كما قال‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وقال صهيب الرومي ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره‏:‏ إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه، رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا‏}‏ أي‏:‏ يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل كل منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ‏[‏لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏]‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏، وقال ‏{‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ أي‏:‏ الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37، 38‏]‏‏.‏

ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة ‏{‏حم‏}‏ السجدة، قال‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله‏:‏ أن الله جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ قد بيناها ووضحناها ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعقلون ويعرفون الحق ويجتنبون الباطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98 - 99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ آدم عليه السلام، كما قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمُسْتَقَرٌ‏}‏ اختلفوا في معنى ذلك، فعن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي عبد الرحمن السلمي، وقيس بن أبي حازم ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، والضحاك وقتادة والسُّدِّي، وعطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏فَمُسْتَقَرٌ‏}‏ أي‏:‏ في الأرحام قالوا -أو‏:‏ أكثرهم -‏:‏ ‏{‏وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏ أي‏:‏ في الأصلاب‏.‏

وعن ابن مسعود وطائفة عكس ذلك‏.‏ وعن ابن مسعود أيضا وطائفة‏:‏ فمستقر في الدنيا، ومستودع حيث يموت‏.‏ وقال سعيد بن جُبَيْر‏:‏ ‏{‏فَمُسْتَقَرٌ‏}‏ في الأرحام وعلى ظهر الأرض، وحيث يموت‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ المستقر الذي ‏[‏قد‏]‏ مات فاستقر به عمله‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ ومستودع في الدار الآخرة‏.‏

والقول الأول هو الأظهر، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ يفهمون ويَعُون كلام الله ومعناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ أي بقدر مباركًا، رزقًا للعباد وغياثًا للخلائق، رحمة من الله لخلقه ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ كَمَا قَالَ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا‏}‏ أي‏:‏ زرعًا وشجرًا أخضر، ثم بعد ذلك يخلق فيه الحب والثمر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا‏}‏ أي‏:‏ يركب بعضه بعضا، كالسنابل ونحوها ‏{‏وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ‏}‏ أي‏:‏ جمع قِنو وهي عُذُوق الرّطب ‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قريبة من المتناول، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ‏}‏ يعني بالقنوان الدانية‏:‏ قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وأهل الحجاز يقولون‏:‏ قِنْوان، وقيس يقولون‏:‏ قُنْوان، وقال امرؤ القيس‏:‏

فَأَثَّت أعاليه وآدت أصولهُ *** ومَالَ بقنْوانٍ من البُسر أحْمَرَا

قال‏:‏ وتميم يقولون قُنْيَان بالياء -قال‏:‏ وهي جمع قنو، كما أن صنوان جمع صنو وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ‏}‏ أي‏:‏ ونخرج منه جنات من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف عند أهل الحجاز، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا، كما امتن تعالى بهما على عباده، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏، وكان ذلك قبل تحريم الخمر‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ يتشابه في الورق، قريب الشكل بعضه من بعض، ويتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ‏}‏ أي‏:‏ نضجه، قاله البراء بن عازب، وابن عباس، والضحاك، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وقتادة، وغيرهم‏.‏ أي‏:‏ فكروا في قُدْرة خالقه من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حَطَبًا صار عِنبًا ورطبًا وغير ذلك، مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ‏[‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏]‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ ولهذا قال هاهنا ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته ‏{‏لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصدقون به، ويتبعون رسله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏

هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا في عبادة الله أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء الله في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف عُبدت الجن وإنما كانوا يعبدون الأصنام‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنهم إنما عبدوا الأصنام عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 117 -120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ‏[‏وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا‏]‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏، وقال إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60، 61‏]‏، وتقول الملائكة يوم القيامة‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وقد خلقهم، فهو الخالق وحده لا شريك له، فكيف يعبد معه غيره، كما قال إبراهيم ‏[‏عليه السلام‏]‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95، 96‏]‏‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده؛ فلهذا يجب أن يُفْرَد بالعبادة وحده لا شريك له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا، كما يزعم من قاله من اليهود في العزير، ومن قال من النصارى في المسيح وكما قال المشركون من العرب في الملائكة‏:‏ إنها بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا‏.‏

ومعنى قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَخَرَقُوا‏}‏ أي‏:‏ واختلقوا وائتفكوا، وتخرّصوا وكذبوا، كما قاله علماء السلف‏.‏ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَخَرَقُوا‏}‏ يعني‏:‏ أنهم تخرصوا‏.‏

وقال العوفي عنه‏:‏ ‏{‏وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ قال‏:‏ جعلوا له بنين وبنات‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ كذبوا‏.‏ وكذا قال الحسن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ وضعوا، وقال السُّدِّي‏:‏ قطعوا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فتأويل الكلام إذًا‏:‏ وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياه، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا ظهير ‏{‏وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ‏}‏ يقول‏:‏ وتخرصوا لله كذبا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبغي إن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد، والنظراء والشركاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ مبدع السموات والآرض وخالقهما ومنشئهما و‏[‏محدثها‏]‏ على غير مثال سبق، كما قال مجاهد والسُّدِّي‏.‏ ومنه سميت البدعة بدعة؛ لأنه لا نظير لها فيما سلف‏.‏

‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ أي‏:‏ كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة‏؟‏ أي‏:‏ والولد إنما يكون متولدا عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه؛ لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏[‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *‏]‏ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 88 -95‏]‏‏.‏

‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء، وأنه بكل شيء عليم، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه‏؟‏ وهو الذي لا نظير له فأنى يكون له ولد‏؟‏ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102 - 103‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة، ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ‏}‏ فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا نظير ولا عديل ‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏ فيه أقوال للأئمة من السلف‏:‏

أحدها‏:‏ لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت‏:‏ من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب‏.‏ ‏[‏وفي رواية‏:‏ على الله‏]‏ فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي الضحى، عن مسروق‏.‏ ورواه غير واحد عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة غير وجه وقد خالفها ابن عباس، فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين‏.‏ والمسألة تذكر في أول ‏"‏سورة النجم‏"‏ إن شاء الله ‏[‏تعالى‏]‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر محمد بن مسلم، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي، حدثنا يحيى بن مَعِين قال‏:‏ سمعت إسماعيل بن عُليَّة يقول في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ قال‏:‏ هذا في الدنيا‏.‏ قال‏:‏ وذكر أبي، عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏ أي‏:‏ جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة‏.‏ وقال آخرون، من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية‏:‏ إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏ فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله‏.‏ أما الكتاب، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏.‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى عن الكافرين‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏‏.‏

قال الإمام الشافعي‏:‏ فدل هذا على أن المؤمنين لا يُحْجَبُون عنه تبارك وتعالى‏.‏

وأما السنة، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجرير، وصُهَيْب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏ أي‏:‏ العقول‏.‏ رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين، عن الفلاس، عن ابن مهدي، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك‏.‏ وهذا غريب جدًا، وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية، والله ‏[‏سبحانه وتعالى‏]‏ أعلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم‏.‏ ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي، ما هو‏؟‏ فقيل‏:‏ معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ المراد بالإدراك الإحاطة‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏"‏ ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا‏.‏

قال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ قال‏:‏ لا يحيط بصر أحد بالملك‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثنا أسباط عن سماك، عن عِكْرِمة، أنه قيل له‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ألست ترى السماء‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فكلها ترى‏؟‏‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ هو أعظم من أن تدركه الأبصار‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏.‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، قال‏:‏ هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث‏.‏ رواه ابن أبي حاتم هاهنا، فقال‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث السهمي حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فَنُوا صُفّوا صفًا واحدًا،ما أحاطوا بالله أبدا‏"‏‏.‏

غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم‏.‏

وقال آخرون في ‏[‏قوله تعالى‏]‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏ بما رواه الترمذي في جامعه، وابن أبي عاصم في كتاب ‏"‏السنة‏"‏ له، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مَرْدُوَيه أيضا، والحاكم في مستدركه، من حديث الحكم بن أبان قال‏:‏ سمعت عِكْرِمة يقول‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ رأى محمد ربه تبارك وتعالى‏.‏ فقلت‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ الآية‏؟‏ فقال‏:‏ لي ‏"‏لا أم لك‏.‏ ذلك نوره، الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لا يقوم له شيء‏"‏‏.‏ قال الحاكم‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه

وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -أو‏:‏ النار -لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‏"‏

وفي الكتب المتقدمة‏:‏ إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية‏:‏ يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده‏.‏ أي‏:‏ تدعثر‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء‏.‏ فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه -تعالى وتقدس وتنزه -فلا تدركه الأبصار؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر، ولا للملائكة ولا لشيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏ أي‏:‏ يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه؛ لأنه خلقها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين، كما قال السُّدِّي في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ‏}‏‏.‏ لا يراه شيء وهو يرى الخلائق‏.‏

وقال أبو العالية في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ اللطيف باستخراجها، الخبير بمكانها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104 - 105‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏

البصائر‏:‏ هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا‏}‏ لما ذكر البصائر قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ فإنما يعود وبال ذلك عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أي‏:‏ بحافظ ولا رقيب، بل أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ وكما فصلنا الآيات في هذه السورة، من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون‏:‏ دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم‏.‏ هكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم‏.‏

وقد قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن كيسان، سمعت ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏{‏دَارَسْتَ‏}‏ تلوتَ، خاصمتَ، جادلتَ‏}‏

وهذا كما قال تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا‏.‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ‏[‏فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا‏]‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4، 5‏]‏، وقال تعالى إخبارًا عن زعيمهم وكاذبهم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏.‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏.‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏.‏ ثُمَّ نَظَرَ‏.‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ‏.‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ‏.‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏.‏ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 18 -25‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه‏.‏ فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك، وبيان الحق لهؤلاء‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ‏[‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 53‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين، وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء‏:‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ‏}‏‏.‏ قال التميمي، عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏درست‏"‏ أي‏:‏ قرأت وتعلمت‏.‏ وكذا قال مجاهد، والسُّدِّي والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، قال الحسن‏:‏ ‏"‏وَلِيَقُولُوا دَرَسْت‏"‏، يقول‏:‏ تقادمت وانمحت‏.‏ وقال عبد الرزاق أيضا‏:‏ أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمعت ابن الزبير يقول‏:‏ إن صبيانا يقرؤون هاهنا‏:‏ ‏"‏دَرَسَتْ‏"‏، وإنما هي‏:‏ ‏"‏دَرَسْتَ‏"‏‏.‏

وقال شعبة‏:‏ حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال في قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏دَرَسَتْ‏"‏ بغير ألف، بنصب السين ووقف على التاء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ومعناه انمحت وتقادمت، أي‏:‏ إن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديمًا، وتطاولت مدته‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة أنه قرأها‏:‏ ‏"‏دُرِسَتْ‏"‏ أي‏:‏ قُرئت وتُعُلِّمت‏.‏

وقال معمر، عن قتادة‏:‏ ‏"‏دُرِسَتْ‏"‏‏:‏ قرئت‏.‏ وفي حرف ابن مسعود ‏"‏دَرَسَ‏"‏‏.‏

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ حدثنا حجاج، عن هارون قال‏:‏ هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود‏:‏ ‏"‏وليقولوا دَرَس‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ

وهذا غريب، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا، قال أبو بكر بن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن الليث، حدثنا أبو سلمة، حدثنا أحمد بن أبي بَزَّة المكي، حدثنا وهب بن زَمَعَة، عن أبيه، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولُوا دَرَسْت‏}‏‏.‏ ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث وهب بن زمعة، وقال‏:‏ يعني بجزم السين، ونصب التاء، ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه

تفسير الآيات رقم ‏[‏106 - 107‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏

يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته‏:‏ ‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو‏.‏

‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ أي‏:‏ اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم‏.‏

واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا ‏[‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏]‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا‏}‏ أي‏:‏ بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏ أي‏:‏ حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أي‏:‏ موكل على أرزاقهم وأمورهم ‏{‏إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 21، 22‏]‏، وقال ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏40‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو‏.‏

كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ قالوا‏:‏ يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، ‏{‏فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة‏:‏ كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار اللهعدوا بغير علم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش‏:‏ انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب‏:‏ كان يمنعهم فلما مات قتلوه‏.‏ فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية، وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي مُعِيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البَخْتَري وبعثوا رجلا منهم يقال له‏:‏ ‏"‏المطلب‏"‏، قالوا‏:‏ استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال‏:‏ هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه فقالوا‏:‏ يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندَعْه وإلهه‏.‏ فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب‏:‏ هؤلاء قومك وبنو عمك‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تريدون‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نريد أن تدعنا وآلهتنا، ولندَعْك وإلهك‏.‏ قال له أبو طالب‏:‏ قد أنصفك قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج‏؟‏‏"‏ قال أبو جهل‏:‏ وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها ‏[‏قال‏]‏ فما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا لا إله إلا الله‏"‏‏.‏ فأبوا واشمأزوا‏.‏ قال أبو طالب‏:‏ يا ابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها‏"‏‏.‏ إرَادَةَ أن يُؤيسَهم، فغضبوا وقالوا‏:‏ لتكفن عن شتم آلهتنا، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ومن هذا القبيل -وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها -ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ملعون من سب والديه‏"‏‏.‏ قالوا يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه‏"‏‏.‏ أو كما قال، عليه السلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ معادهم ومصيرهم، ‏{‏فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109 - 110‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن المشركين‏:‏ إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي‏:‏ حلفوا أيمانًا مؤكدة ‏{‏لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ معجزة وخارق، ‏{‏لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ أي‏:‏ ليصدقنها، ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتًا وكفرًا وعنادًا، لا على سبيل الهدى والاسترشاد‏:‏ إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، إن شاء أجابكم، وإن شاء ترككم، كما قال، قال ابن جرير‏:‏ حدثنا هَنَّاد حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن كعب القُرَظِي قال‏:‏ كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فقالوا‏:‏ يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أي شيء تحبون أن آتيكم به‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ تجعل لنا الصفا ذهبا‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏"‏فإن فعلت تصدقوني‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم، والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين‏.‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال له‏:‏ لك ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم‏.‏ فقال رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ بل يتوب تائبهم‏"‏‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ‏}‏ إلى قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يَجْهَلُونَ‏}‏ وهذا مرسل وله شواهد من وجوه أخر‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ ‏[‏وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا‏]‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ قيل‏:‏ المخاطب بـ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ المشركون، وإليه ذهب مجاهد كأنه يقول لهم‏:‏ وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها‏.‏ وعلى هذا فالقراءة‏:‏ ‏"‏إنها إذا جاءت لا يؤمنون‏"‏ بكسر ‏"‏إنها‏"‏ على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها، وقراءة بعضهم‏:‏ ‏"‏أنها إذا جاءت لا تؤمنون‏"‏ بالتاء المثناة من فوق‏.‏

وقيل‏:‏ المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ المؤمنون، أي‏:‏ وما يدريكم أيها المؤمنون، وعلى هذا فيجوز في ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم‏.‏ وعلى هذا فتكون ‏"‏لا‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ صلة كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏، وقوله ‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ما منعك أن تسجد إذ أمرتك وحرام أنهم يرجعون‏.‏ وتقديره في هذه الآية‏:‏ وما يدريكم -أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصا على إيمانهم -أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون وقال بعضهم‏:‏ ‏"‏أنها‏"‏ بمعنى لعلها‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب‏.‏ قال‏:‏ وقد ذكر عن العرب سماعا‏:‏ ‏"‏اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا‏"‏ بمعنى‏:‏ لعلك تشتري‏.‏

قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا‏:‏

أعاذل ما يُدْريك أنّ مَنيَّتي *** إلى سَاعَةٍ في اليوم أو في ضُحَى الغَد

وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه شواهد من أشعار العرب والله ‏[‏تعالى‏]‏ أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ‏[‏كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏]‏‏}‏ ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة‏.‏

وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏، ‏[‏وقال‏]‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ‏[‏وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ‏.‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏.‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ‏]‏ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56 -58‏]‏ فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏، وقال ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَذَرُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نتركهم ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏ قال ابن عباس والسُّدِّي‏:‏ في كفرهم‏.‏ وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة‏:‏ في ضلالهم‏.‏

‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ قال الأعمش‏:‏ يلعبون‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والربيع، وأبو مالك، وغيره‏:‏ في كفرهم يترددون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ‏{‏لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ فنزلنا عليهم الملائكة، أي‏:‏ تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ‏}‏ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏

‏{‏وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى‏}‏ أي‏:‏ فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، ‏{‏وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا‏}‏ -قرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏قِبَلا‏"‏ بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة‏.‏ وقرأ آخرون ‏[‏وقبلا‏]‏ بضمهما قيل‏:‏ معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس‏.‏ وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏قُبُلا‏}‏ أفواجًا، قبيلا قبيلا أي‏:‏ تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ‏{‏مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ إن الهداية إليه، لا إليهم‏.‏ بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته‏.‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏